فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

قوله: {كُلُّ نفْسٍ بِما كسبتْ رهِينةٌ} أي: مأخوذة بعملها ومرتهنة به، إما خلصها وإما أوبقها، والرهينة اسم بمعنى الرهن، كالشيمة بمعنى الشيم، وليست صفة، ولو كانت صفة لقيل: رهين؛ لأن فعيلا يستوي فيه المذكر والمؤنث، والمعنى: كل نفس رهن بكسبها غير مفكوكة.
{إِلاّ أصحاب اليمين} فإنهم لا يرتهنون بذنوبهم، بل يفكون بما أحسنوا من أعمالهم.
واختلف في تعيينهم.
فقيل: هم الملائكة.
وقيل: المؤمنون.
وقيل: أولاد المسلمين.
وقيل: الذين كانوا عن يمين آدم.
وقيل: أصحاب الحقّ.
وقيل: هم المعتمدون على الفضل دون العمل.
وقيل: هم الذين اختارهم الله لخدمته {فِي جنات} هو في محل رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، والجملة استئناف جوابا عن سؤال نشأ مما قبله، ويجوز أن يكون {في جنات} حالا من {أصحاب اليمين}، وأن يكون حالا من فاعل {يتساءلون}، وأن يكون ظرفا ل {يتساءلون}، وقوله: {يتساءلون} يجوز أن يكون على بابه، أي: يسأل بعضهم بعضا، ويجوز أن يكون بمعنى يسألون أي: يسألون غيرهم، نحو دعيته وتداعيته، فعلى الوجه الأول يكون {عنِ المجرمين} متعلقا ب {يتساءلون} أي: يسأل بعضهم بعضا عن أحوال المجرمين، وعلى الوجه الثاني تكون (عن) زائدة، أي: يسألون المجرمين.
وقوله: {ما سلككُمْ في سقر} هو على تقدير القول، أي: يتساءلون عن المجرمين يقولون لهم: ما سلككم في سقر، أو يسألونهم قائلين لهم: ما سلككم في سقر، والجملة على كلا التقديرين في محل نصب على الحال، والمعنى: ما أدخلكم في سقر، تقول سلكت الخيط في كذا: إذا دخلته فيه.
قال الكلبي: يسأل الرجل من أهل الجنة الرجل من أهل النار باسمه، فيقول له: يا فلان ما سلكك في النار.
وقيل: إن الملائكة يسألون الملائكة عن أقربائهم، فتسأل الملائكة المشركين يقولون لهم: ما سلككم في سقر.
قال الفراء: في هذا ما يقوّي أن أصحاب اليمين هم الولدان؛ لأنهم لا يعرفون الذنوب.
ثم ذكر سبحانه ما أجاب به أهل النار عليهم فقال: {قالواْ لمْ نكُ مِن المصلين} أي: من المؤمنين الذين يصلون لله في الدنيا.
{ولمْ نكُ نُطْعِمُ المسكين} أي: لم نتصدق على المساكين.
قيل: وهذان محمولان على الصلاة الواجبة والصدقة الواجبة؛ لأنه لا تعذيب على غير الواجب، وفيه دليل على أن الكفار مخاطبون بالشرعيات.
{وكُنّا نخُوضُ مع الخائضين} أي: نخالط أهل الباطل في باطلهم.
قال قتادة: كلما غوى غأو غوينا معه.
وقال السديّ: كنا نكذب مع المكذبين.
وقال ابن زيد: نخوض مع الخائضين في أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وهو قولهم: كاذب مجنون ساحر شاعر.
{وكُنّا نُكذّبُ بِيوْمِ الدين} أي: بيوم الجزاء والحساب {حتى أتانا اليقين} وهو: الموت، كما في قوله: {واعبد ربّك حتى يأْتِيك اليقين} [الحجر: 99].
{فما تنفعُهُمْ شفاعة الشافعين} أي: شفاعة الملائكة والنبيين، كما تنفع الصالحين.
{فما لهُمْ عنِ التذكرة مُعْرِضِين} التذكرة التذكير بمواعظ القرآن، والفاء لترتيب إنكار إعراضهم عن التذكرة على ما قبله من موجبات الإقبال عليها، وانتصاب {معرضين} على الحال من الضمير في متعلق الجارّ والمجرور، أي: أيّ شيء حصل لهم حال كونهم معرضين عن القرآن الذي هو مشتمل على التذكرة الكبرى والموعظة العظمى.
ثم شبههم في نفورهم عن القرآن بالحمر فقال: {كأنّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتنفِرةٌ} والجملة حال من الضمير في معرضين على التداخل، ومعنى مُّسْتنفِرةٌ: نافرة، يقال: نفر واستنفر، مثل عجب واستعجب، والمراد الحمر الوحشية.
قرأ الجمهور: {مستنفرة} بكسر الفاء، أي: نافرة، وقرأ نافع، وابن عامر بفتحها، أي: منفرة مذعورة، واختار القراءة الثانية أبو حاتم، وأبو عبيد.
قال في الكشاف: المستنفرة الشديدة النفار كأنها تطلب النفار من نفوسها في جمعها له، وحملها عليه، {فرّتْ مِن قسْورةٍ} أي: من رماة يرمونها، والقسور الرامي، وجمعه قسورة، قاله سعيد بن جبير، وعكرمة، ومجاهد، وقتادة، وابن كيسان.
وقيل: هو الأسد، قاله عطاء والكلبي.
قال ابن عرفة: من القسر بمعنى القهر؛ لأنه يقهر السباع.
وقيل: القسورة أصوات الناس.
وقيل: القسورة بلسان العرب الأسد، وبلسان الحبشة الرماة.
وقال ابن الأعرابي: القسورة أول الليل، أي: فرت من ظلمة الليل، وبه قال عكرمة، والأول أولى، وكلّ شديد عند العرب فهو: قسورة، ومنه قول الشاعر:
يا بنت كوني خيرة لخيره ** أخوالها الحيّ وأهل القسورة

ومنه قول لبيد:
إذا ما هتفنا هتفة في ندينا ** أتانا الرجال العابدون القسأور

ومن إطلاقه على الأسد قول الشاعر:
مضمر تحذره الأبطال ** كأنه القسوّر الرهال

{بلْ يُرِيدُ كُلُّ امرئ مّنْهُمْ أن يؤتى صُحُفا مُّنشّرة} عطف على مقدر يقتضيه المقام كأنه قيل: لا يكتفون بتلك التذكرة بل يريد.
قال المفسرون: إن كفار قريش قالوا لمحمد صلى الله عليه وسلم: ليصبح عند رأس كل رجل منا كتاب منشور من الله أنك رسول الله.
والصحف الكتب واحدتها صحيفة، والمنشرة المنشورة المفتوحة، ومثل هذه الآية قوله سبحانه: {حتّى تُنزّل عليْنا كِتابا نّقْرءهُ} [الإسراء: 93] قرأ الجمهور: {منشرة} بالتشديد.
وقرأ سعيد بن جبير بالتخفيف.
وقرأ الجمهور أيضا: بضم الحاء من صحف.
وقرأ سعيد بن جبير بإسكانها.
ثم ردعهم الله سبحانه عن هذه المقالة وزجرهم فقال: {كلاّ بل لاّ يخافُون الآخرة} يعني: عذاب الآخرة؛ لأنهم لو خافوا النار لما اقترحوا الآيات.
وقيل: كلا بمعنى حقا.
ثم كرّر الردع والزجر لهم فقال: {كلاّ إِنّهُ تذْكِرةٌ} يعني: القرآن، أو حقا إنه تذكرة، والمعنى: أنه يتذكر به ويتعظ بمواعظه.
{فمن شاء ذكرهُ} أي: فمن شاء أن يتعظ به اتعظ.
ثم ردّ سبحانه المشيئة إلى نفسه فقال: {وما يذْكُرُون إِلاّ أن يشاء الله} قرأ الجمهور: {يذكرون} بالياء التحتية.
وقرأ نافع، ويعقوب بالفوقية، واتفقوا على التخفيف، وقوله: {إلاّ أن يشاء الله} استثناء مفرّغ من أعمّ الأحوال.
قال مقاتل: إلاّ أن يشاء الله لهم الهدى {هو أهْلُ التقوى} أي: هو الحقيق بأن يتقيه المتقون بترك معاصيه والعمل بطاعاته {وأهْلُ المغفرة} أي: هو الحقيق بأن يغفر للمؤمنين ما فرط منهم من الذنوب، والحقيق بأن يقبل توبة التائبين من العصاة، فيغفر ذنوبهم.
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: {كُلُّ نفْسٍ بِما كسبتْ رهِينةٌ} قال: مأخوذة بعملها.
وأخرج ابن المنذر عنه في قوله: {إِلاّ أصحاب اليمين} قال: هم المسلمون.
وأخرج عبد الرزاق، والفريابي، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه عن عليّ بن أبي طالب: {إِلاّ أصحاب اليمين} قال: هم أطفال المسلمين.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس: {حتى أتانا اليقين} قال: الموت.
وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه عن أبي موسى الأشعري في قوله: {فرّتْ مِن قسْورةٍ} قال: هم الرماة رجال القسيّ.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر عن ابن عباس قال: القسورة الرجال الرماة القنص.
وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن أبي جمرة قال: قلت لابن عباس: القسورة الأسد، فقال: ما أعلمه بلغة أحد من العرب الأسد هم عصبة الرجال.
وأخرج سفيان بن عيينة، وعبد الرزاق، وابن المنذر عن ابن عباس {مِن قسْورةٍ} قال: هو ركز الناس يعني: أصواتهم.
وأخرج أحمد، والدارمي، والترمذي وحسنه، والنسائي، وابن ماجه، والبزار، وأبو يعلى، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن عديّ وصححه، وابن مردويه عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية {هو أهْلُ التقوى وأهْلُ المغفرة} فقال: قال ربكم: «أنا أهل أن أتقى فلا يجعل معي إله، فمن اتقاني فلم يجعل معي إلها، فأنا أهل أن أغفر له» وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة، وابن عمر، وابن عباس مرفوعا نحوه. اهـ.

.قال القاسمي:

سورة المدثر:
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ
{يا أيُّها الْمُدّثِّرُ} أي: المتلفِّف بثيابه لنوم أو استدفاء، من الدثار، وهو كل ما كان من الثياب فوق الشعار. والشعار الثوب الذي يلي الجسد. وأصله: المتدثر، فأدغم، خوطب بذلك لحالته التي كان عليها وقت نزول الوحي. أو لقوله: «دثروني» كما تقدم- وقيل: معناه المدثر بدثار النبوة والرسالة، من قولهم: ألبسه الله لباس التقوى، وزينه برداء العلم. ويقال: تلبس فلان بأمر كذا. فجعل النبوة كالدثار واللباس مجازا.
قال الشهاب: إما أن يراد المتحلي بها والمتزين، كما أن اللباس الذي فوق الشعار يكون حلية لصاحبه وزينة. وكذا يسمى حلّة. والتشبيه بالدثار في ظهورها، أو في الإحاطة. والأول أتم.
{قمْ} أي: من مضجعك ودثارك. أو قيام عزم وجدّ {فأنذِرْ} أي: فحذر قومك من العذاب إن لم يؤمنوا.
قال الشهاب: لم يقل {وبشِّرِ} لأنه كان في ابتداء النبوة، والإنذار هو الغالب، لأن البشارة لمن آمن، ولم يكن إذ ذاك. أو هو اكتفاء لأن الإنذار يلزمه التبشير.
{وربّك فكبِّرْ} قال ابن جرير: أي: فعظِّم بعبادته، والرغبة إليه في حاجاتك، دون غيره من الآلهة والأنداد.
وقال القاشاني: أي: إن كنت تكبر شيئا وتعظِّم قدره، فخصص ربك بالتعظيم والتكبير، لا يعظم في عينك غيره، ويصغر في قلبك كل ما سواه، بمشاهدة كبريائه.
{وثِيابك فطهِّرْ} أي: بالماء من الأنجاس. قال ابن زيد، كان المشركون لا يتطهرون، فأمره أن يتطهر ويطهِّر ثيابه. وقيل: هو أمر بتطهير القلب مما يستقذر من الآثام. قال قتادة: العرب تسمي الرجل إذا نكث ولم يف بعهد أنه دنس الثياب. وإذا وفى وأصلح، قالوا: مطهر الثياب.
وعن ابن عباس: أي: لا تلبسهما على معصية، ولا على غدرِة. ثم أنشد لغيلان ابن سلمة الثقفي:
وإني بحمد الله لا ثوب فاجر ** لبستُ ولا مِنْ غدْرةٍ أتقنّعُ

وفي الوجه الأول بقاء لفظي الثياب والتطهير على حقيقتهما، وفي الثاني تجوز بهما. وبقي وجه ثالث، وهو حمل الثياب على حقيقتها، والتطهير على مجازه، وهو التبصير؛ لأن العرب كانوا يطيلون ثيابهم، ويجرّون أذيالهم خيلاء وكبرا، فأمر بمخالفتهم. ورابع وهو عكس هذا، وذلك بحمل الثياب على الجسد أو النفس كناية، كما قال عنترة:
فشككتُ بالرمح الأصمِّ ثيابه

أي: نفسه. ولذا قال:
ليس الكريم على القنا بِمُحرّمِ

واستصوب ابن الأثير في (المثل السائر) الوجه الأول. قال في الفصل الثالث من فصول يلبس: اعلم أن الأصل في المعنى أن يحمل على ظاهر لفظه، ومن يذهب إلى التأويل يفتقر إلى دليل، كقوله تعالى: {وثِيابك فطهِّرْ}، فالظاهر من لفظ الثياب هو ما يلبس. ومن تأول، ذهب إلى أن المراد هو القلب، لا الملبوس، وهذا لابد له من دليل، لأنه عدول عن ظاهر اللفظ.
ثم قال: المعنى المحمول على ظاهره لا يقع في تفسيره خلاف. والمعنى المعدول عن ظاهره إلى التأويل يقع فيه الخلاف؛ إذ باب التأويل غير محصور، والعلماء متفأوتون في هذا، فإنه قد يأخذ بعضهم وجها ضعيفا من التأويل، فيكسوه بعبارته قوة تميزه عن غيره من الوجوه القوية، فإن السيف بضاربه:
إن السيوف مع الذين قلوبهم ** كقلوبهن، إذا التقى الجمعان

تلقى الحسام على جراءة حدّه ** مثل الجبان بكفِّ كل جبانِ

انتهى.
ويكفي دليلا ما للعرب من الشواهد والأمثال. والاستعمال لا ينحصر في الحقيقة. نعم، المتبادر أولى وأجدر، وهو عنوان الحقيقة.
وقوله تعالى: {والرُّجْز فاهْجُرْ} أي: اتركه. والرجز بكسر الراء كالرجس والسين والزاي يتبادلان، لأنهما من حروف الصفير. والرجس اسم للقبيح المستقذر، كنِّي به عن عبادة الأوثان خاصة، لقوله: {فاجْتنِبُوا الرِّجْس مِن الْأوثانِ} [الحج: 30]، أو عن كل ما يستكره من الأفعال والأخلاق والجملة من جوامع الكلم في مكارم الأخلاق، كأنه قيل: اهجر الجفا والسّفه وكل قبيح، ولا تتخلق بأخلاق هؤلاء المشركين المستعملين للرجز.
وقيل: المراد بالرجز العذاب، وهجره كناية عن هجر ما يؤدي إليه من الشرك والمعاصي.
فالرجز مجاز، وقد أقيم مقام سببه. أو هو بتقدير مضاف، أي: أسباب الرجز. أو التجوز بالتشبيه.
وقرئ بضم الراء، وهو لغة في المكسور، وهما بمعنى، وهو العذاب.
وعن مجاهد أنه بالضم بمعنى الصنم، وبالكسر العذاب.
وأمره صلى الله عليه وسلم بذلك، وهو بريء منه، إما أمر لغيره تعريضا، أو المراد الدوام على هجره.
{ولا تمْنُن تسْتكْثِرُ} أي: لا تعط عطية تلتمس بها أفضل منها، بمعنى: لا تعط شيئا لتعطى أكثر منه. يقال: مننت فلانا كذا، أي: أعطيته. كما قال: {هذا عطاؤُنا فامْنُنْ أو أمْسِكْ} [ص: 39]، أي: فأعط أو أمسك. وأصله أن من أعطى فقد منّ، فسميت العطية بالمنّ على سبيل الاستعارة. وجوز القفّالُ أن يكون الاستكثار عبارة عن طلب العِوض كيف كان زائدا على العطاء. فسمي طلب الثواب استكثارا حملا للشيء على أغلب أحواله. وهذا كما أن الأغلب أن المرأة إنما تتزوج، ولها ولد، للحاجة إلى من يربي ولدها، فسمي الولد ربيبا. ثم اتسع الأمر فسمي ربيبا، وإن كان، حين تتزوج أمه، كبيرا.
وسر النهي أن يكون العطاء خاليا عن انتظار العوض، والتفات النفس إليه تعففا وكمالا وعلو همة.
وقيل: معنى الآية لا تعط عطاء مستكثرا له، فإن مكارم الأخلاق استقلال العطاء، وإن كان كثيرا، فالسين للعد والوجدان. وسبق في سورة الروم في قوله تعالى: {وما آتيْتُم مِّن رِّبا لِّيرْبُو فِي أمْوالِ النّاسِ فلا يرْبُو عِند اللّهِ} [الروم: 39]، كلام في هذه الآية أيضا فارجع إليه.
{ولِربِّك فاصْبِرْ} أي: على أذى المشركين.
{فإِذا نُقِر فِي النّاقُورِ} أي: نفخ في الصور. والناقور من النّقر، بمعنى التصويت. وأصله القرع الذي هو سبب الصوت. ومنه منقار الطائر لأنه يقرع به، أي: لما كان الصوت يحدث بالقرع تجوز به عنه، وأريد به النفخ لأنه من الصوت.
{فذلِك يوْمئِذٍ يوْمٌ عسِيرٌ} أي: شديد.
{على الْكافِرِين غيْرُ يسِيرٍ} أي: هيّن، لما يحيق بهم من صنوف الردى. وفي قوله: {غيْرُ يسِيرٍ} تأكيد يمنع أن يكون عسيرا عليهم من وجه دون وجه، ويشعر بيسره على المؤمنين. ففيه جمع بين وعيد الكافرين وبشارة المؤمنين.
{ذرْنِي ومنْ خلقْتُ وحِيدا} أي: لا مال له ولا ولد.
{وجعلْتُ لهُ مالا مّمْدُودا} أي: مبسوطا كثيرا، أو ممدودا بالنماء.
{وبنِين شُهودا} أي: رجالا يشهدون معه المحافل والمجامع، أو حضورا معه يأنس بهم، لا يحوجه سفرهم وركوبهم الأخطار، لاستغنائهم عن التكسب والمدح.
{ومهّدتُّ لهُ تمْهِيدا} أي: بسطت له في العيش والجاه والرياسة.
{ثُمّ يطْمعُ أنْ أزِيد} أي: من المال والولد والجاه. أو من النعيم الأخرويّ. وهذا أظهر لقوله: {كُلا} أي: لا يكون ما يأمل ويرجو، لأن الجدير بالزيادة من نعيم الآخرة هم المتقون، لا هو، {إِنّهُ كان لِآياتِنا عنِيدا} أي: معاندا للحجج المنزلة والمرسلة.
{سأُرْهِقُهُ صعُودا} أي: سأغشيه عقبة شاقة المصعد. وهو مثل لما يلقى من العذاب الشاق الصعب الذي لا يطاق، قاله الزمخشري.
قال الشهاب: ومعنى كونه مثلا، أنه شبه ما يسوقه الله له من المصائب، بتكليف الصعود في الجبال الوعرة الشاهقة، وأطلق لفظه عليه. فهو استعارة تمثيلية.
ثم علل إرهاقه ذلك بقوله: {إِنّهُ فكّر} أي: ماذا يقول في هذه الآيات الكريمة والذكر الحكيم {وقدّر} أي: في نفسه ما يقوله وهيأه.
{فقُتِل كيْف قدّر} أي: لعن، كيف قدر ذلك الافتراء الباطل، واختلق ما يكذبه وجدانه فيه.
{ثُمّ قُتِل كيْف قدّر} تكرير للمبالغة في التعجب منه، وقد اعتيد فيمن عجب غاية التعجب أنه يكثر من التعجب ويكرره.
و{ثّم} للدلالة على الثانية أبلغ في التعجب من الأولى للعطف بـ {ثّم} الدالة على تفأوت الرتبة. فكأنه قيل: قتل بنوع ما من القتل، لا بل قتل بأشده وأشده؛ لذا ساغ العطف فيه، مع أنه تأكيد.
وقد جوز الزمخشريّ في هذه الجملة ثلاثة أوجه: أن تكون تعجيبا من تقديره وإصابته فيه المحزّ ورميه الغرض الذي كان تنتحيه قريش، أو ثناء عليه على طريقة الاستهزاء به، أو حكاية لما ذكره من قولهم:
{قُتِل كيْف قدّر} تهكما بهم وبإعجابهم بتقديره، واستعظامهم لقوله.
ثم قال: ومعنى قول القائل: قتله الله، ما أشجعه، وأخزاه الله، ما أشعره، الإشعار بأنه قد بلغ المبلغ الذي هو حقيق بأن يحسد ويدعو عليه حاسده بذلك.
{ثُمّ نظر} أي: في ذلك المقدّر، أي: تروّى فيه. قال الرازيّ: وهذه المرتبة الثالثة من أحوال قلبه. فالنظر الأول للاستخراج، واللاحق للتقدير، وهذا هو الاحتياط.
وقال غيره: {ثُمّ نظر} أي: في وجوه القوم.
{ثُمّ عبس} أي: قطّب وجهه كبرا وتهيؤا لقذف تلك الكبيرة {وبسر} أي: كلح وجهه. شأن اللئيم في مرأوغته ومخاتلته، والحسود في آثار حقده على صفحات وجهه.
{ثُمّ أدْبر} أي: عن الحق {واسْتكْبر} أي: عن الإيمان به.
{فقال إِنْ هذا إِلّا سِحْرٌ يُؤْثرُ} أي: ما هذا القرآن إلا سحر يروى ويُتعلم. أي: يأثره عن غيره.
{إِنْ هذا إِلّا قول الْبشرِ} أي: ليس بكلام الله، كما يقوله.
تنبيه:
اتفق المفسرون أن هذه الآيات نزلت في الوليد بن المغيرة المخزومي، أحد رؤساء قريش، لعنه الله. وكان من خبره ما رواه ابن إسحاق أن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش وكان ذا سن فيهم، وقد حضر الموسم، فقال لهم: يا معشر قريش! إنه قد حضر هذا الموسم، وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فأجمعوا رأيا واحدا ولا تختلفوا، فيكذب بعضكم بعضا، ويردّ قولكم بعضه بعضا. قالوا: فأنت يا أبا عبد شمس! فقل، وأقم لنا رأيا نقل به. قال: بل أنتم فقولوا أسمع. قالوا: نقول كاهن. قال: لا، واللهِ ما هو بكاهن! لقد رأينا الكهّان، فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه. قالوا: فنقول: مجنون! قال: ماهو بمجنون. لقد رأينا الجنون وعرفناه، فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته. قالوا: فنقول شاعر! قال: ما هو بشاعر. لقد عرفنا الشعر كله: رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه، فما هو بالشعر. قالوا: فنقول ساحر! قال: ما هو بساحر. لقد رأينا السُّحّار وسحرهم، فما هو بنفثهم ولا عقدهم. قالوا: فما نقول يا أبا عبد شمس؟ قال: والله! إن لقوله لحلأوة، وإن أصله لعذق، وإن فرعه لجناة، وما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عُرف أنه باطل، وإن أقرب القول فيه، لأن تقولوا: هو ساحر جاء بقول هو سحر يفرّق به بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وعشيرته فتفرقّوا عنه بذلك. فجعلوا يجلسون بسبل الناس حين قدموا الموسم. لا يمرّ بهم أحد إلا حذّروه إياه، وذكروا لهم أمره. فأنزل الله تعالى في الوليد ابن المغيرة، وفي ذلك، من قوله: {ذرْنِي ومنْ خلقْتُ وحِيدا} الآيات.
وعن قتادة: قال الوليد: لقد نظرت فيما قال هذا الرجل، فإذا هو ليس بشعر، وإن له لحلأوة، وإن عليه لطلأوة، وإنه ليعلوا وما يُعلى، وما أشك أنه سحر. فأنزل الله الآيات، رواه ابن جرير.
وثم روايات بنحو ما ذكر.
وقد روى مجاهد أن الوليد كان بنوه عشرة. وحكى الثعلبي عن مقاتل أنه أسلم منهم ثلاثة: خالد وعمار وهشام. قال ابن حجر في (الإصابة): والصواب خالد وهشام والوليد. فأما عمارة، فإنه مات كافرا، لأن قريشا بعثوه للنجاشيّ، فجرت له معه قصة، فأصيب بعقله. وقد ثبت أنه ممن «دعا النبي صلى الله عليه وسلم عليهم من قريش» لمّا وضع عقبة بن أبي معيط سلى الجزور على ظهره، وهو يصلي.
{سأُصْلِيهِ سقر} أي: جهنم. وهو بدل من {سأُرْهِقُهُ صعُودا} بدل اشتمال، لاشتمال {سقرُ} على الشدائد {وما أدْراك ما سقرُ لا تُبْقِي ولا تذرُ} قال الزمخشريّ: أي: لا تبقي شيئا يلقى فيها إلا أهلكته، وإذا هلك لم تذره هالكا حتى يعاد. أو لا تبقي على شيء ولا تدعه من الهلاك، بل كل ما يطرح فيها هالك لا محالة.
{لواحةٌ لِّلْبشرِ} أي: محرقة للجلود، من لوحته الشمس، إذا سوّدت ظاهره وأطرافه. والبشر: جمع بشرة، وهي ظاهر الجلد. أو اسم جنس بمعنى الناس. وجوز أن يكون المعنى: لائحة للناس، من لاح بمعنى ظهر، والبشر بمعنى الناس.
{عليْها تِسْعة عشر} أي: من الخزنة المتولين أمرها، والتسلط على أهلها، وفيه إشارة إلى أن زبانية العذاب الأخرويّ، تفوق زبانية الجبابرة في الدنيا أضعافا مضاعفة، تنبيها على هول العذاب، وكبر مكانه.
{وما جعلْنا أصْحاب النّارِ} أي: خزنتها {إِلّا ملائِكة} أي: وهم أقوى الخلق بأسا، وأشدهم غضبا لله، ليباينوا جنس المعذبين، فلا يستروحون لهم.
{وما جعلْنا عِدّتهُمْ إِلّا فِتْنة لِّلّذِين كفرُوا} أي: من مشركي قريش. أي: إلا عدة من شأنها أن يفتتن بها الكافرون، فيجعلوها موضع البحث والهزء.
قال الجبائي: المراد من الفتنة تشديد التعبد ليستدلوا ويعرفوا أنه تعالى قادر على أن يقوّي هؤلاء التسعة عشر على مالا يقوى عليه مائة ألف ملك أقوياء.
وقال الكعبيّ: المراد من الفتنة الامتحان حتى يفوّض المؤمنون حكمة التخصيص بالعدد المعيّن إلى علم الخالق سبحانه. قال: وهذا من المتشابه الذي أمروا بالإيمان به.
{لِيسْتيْقِن الّذِين أوتُوا الْكِتاب} أي: رسالة النبيّ صلوات الله عليه لإنبائه من وعيد الجاحدين المفسدين ما لديهم مصداقه. واللام متعلقة بـ {جعلْنا} الثانية.
فإن قيل: كيف يصح جعلهم في نفس الأمر على هذا العدد، معللا باستيقان أهل الكتاب، وازدياد المؤمنين، واستبعاد أهل الشك والنفاق، وليس إيجادهم تسعة عشر سببا لشيء من ذلك، وإنما السبب لما ذكر، هو الإخبار عن عددهم بأنه تسعة عشر؟
والجواب: أن الجعل يطلق على معنيين:
أحدهما: جعل الشيء متصفا بصفة في نفس الأمر.
وثانيهما: الإخبار باتصافه بها، ويقال له: الجعل بالقول. أي: وما جعلنا عدتهم بالإخبار عنها إلا عددا يقتضي فتنتهم، لاستيقان أهل الكتاب.... إلخ، أي: وقلنا ذلك وأخبرنا به لاستيقان... إلخ. وعبر عن الإخبار بالجعل، لمشاكلة قوله: {وما جعلْنا أصْحاب النّارِ} إلخ، هذا ما قرّره شرّاح القاضي.
{ويزْداد الّذِين آمنُوا إِيمانا} أي: تصديقا إلى تصديقهم بالله ورسوله {ولا يرْتاب الّذِين أوتُوا الْكِتاب والْمُؤْمِنُون ولِيقول الّذِين فِي قُلوبِهِم مّرضٌ والْكافِرُون ماذا أراد اللّهُ بِهذا مثلا} أي: حتى يخوّفنا بهؤلاء التسعة عشر.
قال الزمخشريّ: فإن قلت: كيف ذكر الذين في قلوبهم مرض، وهم المنافقون، والسورة مكية، ولم يكن بمكة نفاق، وإنما نجم بالمدينة؟
قلت: معناه وليقول المنافقون الذين ينجمون في مستقبل الزمان بالمدينة بعد الهجرة، والكافرون بمكة: ماذا أراد الله بهذا مثلا. وليس في ذلك إلا إخبار بما سيكون، كسائر الإخبارات بالغيوب. وذلك لا يخالف كون السورة مكية. ويجوز أن يراد بالمرض الشك والارتياب، لأن أهل مكة كان أكثرهم شاكّين، وبعضهم قاطعين بالكذب. انتهى.
وقال الرازيّ: إن قيل: لم سموه مثلا؟ فالجواب: أنه لما كان هذا عددا عجيبا، ظن القوم أنه ربما لم يكن مرادا لله منه ما أشعر به ظاهره، بل جعله مثلا لشيء آخر، وتنبيها على مقصود آخر، لا جرم سموه مثلا.
{كذلِك يُضِلُّ اللّهُ من يشاء} أي: إضلاله لصرفه اختياره إلى جانب الضلال: عند مشاهدته آيات الله الناطقة بالحق.
{ويهْدِي من يشاء} أي: هدايته لصرف اختياره عند مشاهدته لتلك الآيات إلى جانب الهدى {وما يعْلمُ جُنُود ربِّك إِلّا هو} قال الزمخشريّ: أي: وما يعلم ما عليه كل جند من العدد الخاص، من كون بعضها على عقد كامل، وبعضها على عدد ناقص، وما في اختصاص كل جند بعدده، من الحكمة إلا هو. ولا سبيل لأحد إلى معرفة ذلك، كما لا يعرف الحكمة في أعداد السمأوات والأرضين وأمثالها. أو وما يعلم جنود ربك لفرط كثرتها إلا هو، فلا يعزّ عليه الزيادة على عدد الخزنة المذكور، ولكن له في هذا العدد الخاص حكمة لا تعلمونها. انتهى.
ويجوز أن تكون الجملة تأييدا لكون ما تقدم مثلا، أي: أن المؤمنين يستيقنون بأن عدتهم ضربت مثلا للكثرة غير المعتاد سماعها للكافرين. ومن سنته تعالى ضرب الأمثال في تنزيله، وإلا فلا يعلم جنوده التي يسلطها على تعذيب من يشاء إلا هو. وهذا معنى آخر لم أقف الآن على من نبه عليه، ويؤيده قوله: {وما هِي} أي: عدتهم المذكورة {إِلّا ذِكْرى لِلْبشرِ} أي: عظة يرهبون منها عذاب النار، وهول أصحابها.
وقيل الضمير لـ {سقر} وقيل: للآيات. والأقرب عندي هو الأول لسلامته من دعوى كون ما قبله معترضا، إذا أعيد الضمير لغيره، ولتأييده لما قبله بالمعنى الذي ذكرناه.
{كُلا} ردع لمن أنكر العدة أو سقر أو الآيات. أو إنكار لأن تكون لهم ذكرى لأنهم لا يتذكرون، {والْقمرِ واللّيْلِ إِذْ أدْبر} أي: ولّى ذاهبا بطلوع الفجر.
{والصُّبْحِ إِذا أسْفر} أي: أضاء. ومن فوائد القسم بها الاعتبار بفوائدها، والاستدلال بآياتها، كما تقدم في سورة الصافات.
{إِنّها لإِحْدى الْكُبرِ} أي: الأمور العظام.
{نذِيرا لِّلْبشرِ} أي: إنذارا لهم، فنصبه على أنه تمييز عن إحدى؛ لما تضمنه من معنى التعظيم، كأنه قيل: أعظم الكبر إنذارا. فـ {نذِيرا} بمعنى الإنذار، كنكير بمعنى الإنكار. أو على أنه حال عما دلت عليه الجملة. أي: كبرت منذرة، فـ {نذِيرا} مصدر مؤول بالوصف، أو وصف بمعنى منذرة.
{لِمن شاء مِنكُمْ أن يتقدّم} أي: يسبق إلى الإيمان والطاعة {أو يتأخّر} أي: يتخلف. و{لْمنّ} بدل من {لِّلْبشرِ} أي: منذرة لمن شاؤوا التقدم والفوز، أو التأخر والهلاك. أو خبر مقدم، و{أن يتقدّم} مبتدأ مؤخر، كقولك لمن توضأ أن يصلي، كآية {فمن شاء فلْيُؤْمِن ومن شاء فلْيكْفُرْ} [الكهف: 39]، وفي الثاني بُعْدٌ وزعم أبو حيان أن اللفظ لا يحتمله، ولم يسلم له.
{كُلُّ نفْسٍ بِما كسبتْ رهِينةٌ} أي: مرهونة ومحبوسة به عند الله تعالى: {إِلّا أصْحاب الْيمِينِ} أي: فإنهم فكوا رقابهم بما أطابوه من كسبهم، كما يخلص الراهن رهنه بأداء الحق,
{فِي جنّاتِ} أي: هم في جنات لا يدرك وصفها {يتساءلون عنِ الْمُجْرِمِين} أي: يسألون عنهم. وإيثار صيغة التفاعل للتكثير، ومنه دعوته وتداعيناه.
وقال القاشاني: أي: يسأل بعضهم بعضا عن حال المجرمين، لاطلاعهم عليها، وما أوجب تعذيبهم وبقاءهم في سقر، فأجاب المسؤولون بأنا سألناهم عن حالهم بقولنا: {ما سلككُمْ فِي سقر} أي: بلسان الحال أو المقال.
{قالوا لمْ نكُ مِن الْمُصلِّين ولمْ نكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِين وكُنّا نخُوضُ مع الْخائِضِين وكُنّا نُكذِّبُ بِيوْمِ الدِّينِ} أي: كنا موصوفين بهذه الرذائل من اختيار الراحات البدنية، ومحبة المال، وترك العبادات البدنية، والخوض في الباطل، والهزء والهذيان، والتكذيب بالجزاء، وإنكار المعاد.
{حتّى أتانا الْيقِينُ} أي: الموت، فرأينا به ما كنا ننكره عيانا.
{فما تنفعُهُمْ شفاعةُ الشّافِعِين} أي: من نبيّ أو ملك، لو قدر على سبيل فرض المحال، لأنهم غير قابلين لها. فلا إذن في الشفاعة لذلك. فلا شفاعة، فلا تنفع.
قال ابن جرير: أي: فما يشفع لهم الذين شفعهم الله في أهل الذنوب من أهل التوحيد، فتنفعهم شفاعتهم. وفي هذه الآية دلالة واضحة على أن الله تعالى ذِكره، مشفِّع بعض خلقه في بعض.
{فما لهُمْ عنِ التّذْكِرةِ مُعْرِضِين} أي: فما لهؤلاء المشركين عن تذكرة الله إياهم بهذا القرآن معرضين، لا يستمعون لها، فيتعظوا ويعتبروا.
{كأنّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتنفِرةٌ} أي: كأنهم في الإعراض عن الذكرى، وبلادة قلوبهم، حمر شديدة النفار {فرّتْ مِن قسورة} أي: أسد، أو عصبة قنص من الرماة.
{بلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أن يُؤْتى صُحُفا مُّنشّرة} أي: ينزل عليه كتاب كما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم، ونحوه آية: {وإِذا جاءتْهُمْ آيةٌ قالواْ لن نُّؤْمِن حتّى نُؤْتى مِثْل ما أوتِي رُسُلُ اللّهِ} [الأنعام: 124]، وآية {ولن نُّؤْمِن لِرُقِيِّك حتّى تُنزِّل عليْنا كِتابا نّقْرؤُهُ} [الإسراء: 93]، وآية {ولو نزّلْنا عليْك كِتابا فِي قِرْطاسٍ فلمسُوهُ بِأيْدِيهِمْ} [الأنعام: 7] الآية.
{كُلا} أي: لا يكون مرادهم، ولا يتبع الحق أهوائهم. أو ليس إرادتهم تلك للرغبة في الإيمان، فقد جاءهم ما يكفيهم عن اقتراح غيره، وإنما هم مردة الداء، ولذا قال: {بل لا يخافُون الْآخِرة} أي: لا يؤمنون بالبعث والجزاء، ولا يخشون العقاب، لإيثارهم العاجلة. أي: فذلك الذي دعاهم إلى الإعراض عن تذكرة الله، والإباء عن الإيمان بتنزيله.
{كُلا} ردع عن إعراضهم {كلّا إِنّهُ تذْكِرةٌ فمن شاء ذكرهُ} أي: فاتعظ وعمل بما فيه من أمر الله ونهيه.
{وما يذْكُرُون إِلّا أن يشاء اللّهُ} أي: ذكرهم واتعاظهم، لأنه لا حول لهم ولا قوة إلا به سبحانه. وفيه ترويح لقلبه صلوات الله عليه، مما كان يخامره من إعراضهم، ويحرص عليه من إيمانهم {هو أهْلُ التّقْوى} أي: حقيقٌ بأن يتقى عقابه، ويؤمن به ويطاع.
{وأهْلُ الْمغْفِرةِ} أي: حقيق بأن يغفر لمن آمن به وأطاعه. اهـ.